في التدقيقِ، وَهو أبعَدُ مِنَ التَأمُّلِ، لبنانُ لا مُرتَسِمٌ بَل مَوجودٌ في أسفارِ الخَلاصِ الوجودِيَّةِ كُلِّها. هو الظَهورَةُ الوَحيدَةُ المُستَقِرَّةُ في صَميمِها، والباعِثُ الى التَأمُّلِ فيها. هو المَعينُ الأصلِيُّ ألْمِنهُ تَستَقي مَقاصِدُ اللهِ بَلوَرَةً تَجلو غَوامِضَها لِتُصَفِّيها لُبنَةُ فَوقَ لُبنَةٍ: مِنَ الجُذوعِ الى الفُروعِ، مِنَ الريحِ الى العاصِفَةِ، مِنَ السُكونِ الى العُبورِ، في إكتِنازِ مَعانيَ الرِسالَةِ ألْهِيَ أعظَمُ الرِسالاتِ. تَجَسُّدُ الأُلوهَةِ على أرضِ البَشَرِ. بالأصالَةِ، بالإفصاحِ، بالتَعَجُّبِ. في عَناصِرَ الخَلقِ وَمُعطياتِهِ. في كَينونَتِهِ كَما في مُجابَهَتِهِ الواقِعَ البَشَرِيَّ.

هو لبنانُ، أكبَرُ مِن حِيِّزِ مَكانِيٍّ لِلأُلوهَةِ المُتَجَسِّدَةِ، في عُبورِها صَفَحاتَ حَياةِ الإنسانِيَّةِ.

هو زَمكانِيَّةُ العِنايَةِ. زَمكانِيَّةُ الخَلاصِ.

"كانَ يَسوعُ سائِراً على شاطِىءِ بَحرِ الجَليلِ" (مَرقُسَ 1/16). وأيُّ بَحرِ؟ بُحَيرَةُ المُعجِزاتِ السَيدِيَّةِ.

فيها، أفاضَ الروحُ حَولَها تَعاليمَهُ وَعِظَةَ جَبَلِهِ وَمُعجِزاتِهِ وإخراجَ شَياطينَ، فَتَهَلَّلَ لِلآبِ شاكِراً، بأماكِنَ تَكَوكَبَت وأجوارَها مُتَوِّجَةً إيَّاها: بَيتَ لَحمَ، أورشالايّيمَ، بَيتَ صَيدا، المَجدَل، كْفَرناحومَ، السامِرَةَ وَبِئرَها، وَقَيصَرِيَّةَ فيليبُّسَ وَزَوَغانَها...، وَكُلُّها مِن أرضِ مَملَكَتَي صورَ وَصَيدا بُناتِها، وَكُلُّها إنتِماؤها إلَيها.

إلَيها، كانَ يَبتَعِدُ وَتَلاميذُهُ عَن عُيونِ سُلطَةِ هيرودُسَ أنتيباسَ وَتَسَلُّطِ رُعاعِ اليَهودِ الَذينَ ما قَبِلوهُ.

حَولَها، أطعَمَ الجِياعَ وأشبَعَهُمُ خُبزاً أرضِيَّاً، قَبلَ أن يُحَوِّلَ جَسَدَهُ: كِفايَةَ الخَلاصِ الأوحَدِ بِدَمِهِ المِهراقِ لِأجلِ الكَثيرينَ. فِصحَ العُبورِ مِنَ المَوتِ الى الحَياةِ الأبَدِيَّةِ.

وَمِنها، تَرَكَ مَناطِقَ تَآلُفِ الإحتِلالِ الرومانِيِّ والسُلطَةِ الدينِيَّةِ اليَهودِيَّةِ، بالرياءِ والنِفاقِ، الى صورَ وَصَيدا وَنَواحيهِما، بَعدَما آلَ البَعضُ الى إعلانِهِ مَلِكاً أرضِيَّاً ‒وَهوَ لَيسَ تَرضِيَةً زَمَنِيَّةً أتى‒، لِيَفتَحَ مِن تِلكَ الحاضِرَتَينِ وَنَواحيهِما أبوابَ الخَلاصِ ألْهوَ حامِلَهُ عَلى مِصراعَيهِ لِكافَةِ الأُمَمِ: لِلجَميعِ، لِلجَميعِ، لِلجَميعِ.

هي تِلكَ بُحَيرَةُ الجَليلِ-طَبَرَيَّةَ: بِصَيَّاديها طَلائِعَ تَلاميذِهِ. وَكُلُّهُمُ مِن لبنانَ وَإلَيهِ. هو يَعرِفُ ذَلِكَ، وَلِأجلِ ذلك، كانَت إنطِلاقَتُهُ مِنها وَإلَيها. مِن لبنانَ وَإلَيهِ. ألَيسَت، مَكانِيَّاً، جُزءاً مِنَ الشِقِّ الشامِلِ واديَ العاصيَ وَمَرجَ البِقاعِ؟ ألَيسَ نَهرُ الحاصباني، الرافِدُ أنهارَ بانياسَ وَدانَ والأُردُنَ يَصُبُّ فيها مُكَلِّلُها ثالوثِيَّاً؟

تَأهُّبُ الضَبطِ

ألَم يُطلَق عَلَيها تِلكَ البُحَيرَةُ-البَحرُ، إسمَ "بُحَيرَةِ الجَرجاشِييِّ" نِسبَةً الى العائِلَةِ الأكبَرَ لِلسُكَّانِ شَرقَها مِن مَملَكَتَي صورَ وَصَيدا، قَبلَ أن تُسمَّى "كِنَّارَةَ" وَ"كِنروتَ" و"جينيساراتَ"، نِسبَةُ الى البَلدَةِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ في مَوقِعِ "تَل العُرَيمَةِ"، شَمالَ غَربِها، وَقَبلَ أن تُعرَفَ بالتَسمِيَةِ المُزدَوِجَةِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ الحاليَةِ: "بَحرُ الجَليلِ" (الأناجيلُ)-"بُحَيرَةُ طَبَرَيَّةَ" (يوحَنَّا 21/1) نِسبَةُ الى جَليلِ الأُمَمِ الفينيقيِّ-الُلبنانِيِّ؟

هي بُحَيرَةُ التَأهُّبِ لِلبَحرِ-الضَبطِ: تَأهُّبُ رِسالَةِ البَحرِ إبنِ اللهِ. الرِسالَةُ الأساسُ مِن حُرمَةِ حَياةِ الأُلوهَةِ الى خُصوصِيَّاتِ الحَياةِ البَشَرِيَّةِ وَفَردِيَّاتِها. مِن طَبيعَةِ العَناصِرَ الى مَرامِيَ الإنسانِيَّةِ.

هي بُحَيرَةٌ تُعطى لِلحُرمَةِ لِتَصونَ النِسبِيَّاتِ الذاتِيَّةِ فَتَحفَظُها لِنَفسِها وَلِلآخَرينَ بإنسِجامِ التَآلُفِ... قُلّ: في ظَهورَةِ المَسؤولِيَّةِ. تَمامُ كَمالِ الروحِ ألْمِنَ الآبِ وَالإبنِ في الجَسَدانِيَّاتِ... بِتَآلُفِ السَرمَدِ والمُبينِ. ألَيسَ ذاكَ قَصدُ النِعمَةِ في حُلولِها في أبناءِ الإنسانِ لِتُكَوِّنَهُمُ فيها؟

يا لِجَلاءِ الظَهورَةِ الأولى المُعطاةِ لِعُبورِ الجُمودِ، في أغوارِ الزَمكانِيَّاتِ!

يا لِتَأهُّبِ الضَبطِ هَذا الموَحِّدِ في العَقلِ المُعتَبَرِ. في وجودِيَّةِ الجَذوَةِ الإلَهِيَّةِ-الإنسانِيَّةِ المُتَعانِقَةِ!

هي تِلكَ بُحَيرَةُ الجَليلِ-طَبَرَيَّةَ، بُحَيرَةُ الخَلاصِ، بُحَيرَةُ لبنانَ ألْحَمَلَت عَلى أمواجِ مياهِها إبنَ اللهِ، ألْشَواطِئُها إستَقبَلَتهُ مُخَلِّصاً، وَحَضَنَتهُ أُمومِيَّاً، لِيَبدَأ عَلَيها... الحُبُّ الأعظَمُ مَلَكوتاً.